الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{إِنَّآ إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ} أي ذهاب عن الصواب {وَسُعُرٍ} أي جنون، من قولهم: ناقة مسعورة، أي كأنها من شدة نشاطها مجنونة، ذكره ابن عباس.قال الشاعر يصف ناقته:
الذميل ضرب من سير الإبل.قال أبو عبيد: إذا ارتفع السير عن العَنَق قليلًا فهو التّزيُّد، فإذا ارتفع عن ذلك فهو الذميل، ثم الرَّسيم؛ يقال: ذمَل يَذْمُل ويَذمِل ذميلًا.قال الأصمعي: ولا يَذمُل بعير يومًا وليلةً إلا مَهْرِيٌّ قاله.وقال ابن عباس أيضًا: السُّعر العذاب، وقاله الفراء.مجاهد: بعد الحق.السديّ: في احتراق.قال: أي متقد ومحترق.أبو عبيدة: هو جمع سعير وهو لهيب النار.والبعير المجنون يذهب كذا وكذا لما يتلهب به من الحدّة.ومعنى الآية: إنَّا إذًا لفي شقاء وعناء مما يلزمنا.قوله تعالى: {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا} أي خصص بالرسالة من بين آل ثمود وفيهم من هو أكثر مالًا وأحسن حالًا؟! وهو استفهام معناه الإنكار.{بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} أي ليس كما يدّعيه، وإنما يريد أن يتعاظم ويلتمس التكبر علينا من غير استحقاق.والأَشَر المَرَح والتَجَبُّر والنّشاط.يقال: فرس أَشِر إذا كان مرحًا نشيطًا؛ قال امرؤ القيس يصف كلبًا: وقيل: {أَشِرٌ} بَطِر.والأَشَر البَطَر؛ قال الشاعر: وقدأشِر بالكسر يأشَر أَشَرًا فهو أَشِر وأَشْران، وقوم أشَارى مثل سَكْران وسُكَارى؛ قال الشاعر: وقيل: إنه المتعدي إلى منزلة لا يستحقها؛ والمعنى واحد.وقال ابن زيد وعبد الرحمن بن حماد: الأشِر الذي لا يبالي ما قال.وقرأ أبو جعفر وأبو قِلابة {أَشَرُّ} بفتح الشين وتشديد الراء يعني به أشرنا وأخبثنا.{سَيَعْلَمُونَ غَدًا} أي سيرون العذاب يوم القيامة، أو في حال نزول العذاب بهم في الدنيا.وقرأ ابن عامر وحمزة بالتاء على أنه من قول صالح لهم على الخطاب.الباقون بالياء إخبار من الله تعالى لصالح عنهم.وقوله: {غَدًا} على التقريب على عادة الناس في قولهم للعواقب: إن مع اليوم غدًا؛ قال: وقال الطرِمَّاح: إنما أراد وقت الموت ولم يرد غدًا بعينه.{مَّنِ الكذاب الأشر} وقرأ أبو قِلابة {الأَشَرُّ} بفتح الشين وتشديد الراء جاء به على الأصل.قال أبو حاتم: لا تكاد العرب تتكلم بالأَشَرّ والأَخيَر إلا في ضرورة الشعر؛ كقول رؤبة: وإنما يقولون هو خير قومه، وهو شر الناس؛ قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] وقال: {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا} [مريم: 75].وعن أبي حيوة بفتح الشين وتخفيف الراء.وعن مجاهد وسعيد بن جُبير ضم الشين والراء والتخفيف، قال النحاس: وهو معنى {الأشِر} ومثله رجل حَذِر وحَذُر.قوله تعالى: {إِنَّا مُرْسِلُو الناقة} أي مخرجوها من الهضبة التي سألوها، فروي أن صالحًا صلى ركعتين ودعا فانصدعت الصخرة التي عينوها عن سنامها، فخرجت ناقة عُشَراء وبراء.{فِتْنَةً لَّهُمْ} أي اختبارا وهو مفعول له.{فارتقبهم} أي انتظر ما يصنعون.{واصطبر} أي اصبر على أذاهم، وأصل الطاء في اصطبر تاء فتحوّلت طاء لتكون موافقة للصاد في الإطباق.{وَنَبِّئْهُمْ}: أي أخبرهم {أَنَّ الماء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} أي بين آل ثمود وبين الناقة، لها يوم ولهم يوم، كما قال تعالى: {لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} [الشعراء: 155] قال ابن عباس: كان يوم شِربهم لا تشرب الناقة شيئًا من الماء وتسقيهم لبنًا وكانوا في نعيم، وإذا كان يوم الناقة شربت الماء كلّه فلم تُبق لهم شيئًا.وإنما قال: {بَيْنَهُمْ} لأن العرب إذا أخبروا عن بني آدم مع البهائم غلّبوا بني آدم.وروى أبو الزبير عن جابر قال: لما نزلنا الحجرْ في مغزى رسول الله صلى الله عليه وسلم تَبُوك، قال: «أيها الناس لا تسألوا في هذه الآيات هؤلاء قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث الله لهم ناقة فبعث الله عز وجل إليهم الناقة فكانت تَرِد من ذلك الفجّ فتشرب ماءهم يوم وردها ويحلبون منها مثل الذي كانوا يشربون يوم غِبِّها» وهو معنى قوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الماء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ}.{كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} الشِّرْب بالكسر الحَظ من الماء؛ وفي المثل: (آخرها أقلّها شِرْبًا) وأصله في سقي الإبل، لأن آخرها يرد وقد نزِف الحوضُ.ومعنى {مُحْتَضَرٌ} أي يحضُره مَن هو له؛ فالناقة تَحضُر الماء يوم وِردها، وتغيب عنهم يوم وِردهم؛ قاله مقاتل.وقال مجاهد: إن ثمود يحضرون الماء يوم غبِّها فيشربون، ويحضرون اللبن يوم وِردها فيحتلبون.قوله تعالى: {فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ} يعني بالحضّ على عَقْرها {فتعاطى} عقرها {فَعَقَرَ} هَا ومعنى تعاطى تناول الفعل؛ من قولهم: عَطَوتُ أي تناولت؛ ومنه قول حسان: قال محمد بن إسحاق: فكمِن لها في أصل شجرة على طريقها فرماها بسهم فانتظم به عَضَلة ساقها، ثم شدّ عليها بالسيف فكشف عُرْقوبها، فخرّت ورَغت رُغاءةً واحدة تحَدّر سَقْبها من بطنها ثم نَحرها، وانطلق سَقْبها حتى أتى صخرة في رأس جبل فرغا ثم لاذ بها، فأتاهم صالح عليه السلام؛ فلما رأى الناقة قد عُقِرت بكى وقال: قد انتهكتم حرمة الله فأبشروا بعذاب الله.وقد مضى في (الأعراف) بيان هذا المعنى.قال ابن عباس: وكان الذي عقرها أحمر أزرق أشقر أكشف أقفى.ويقال في اسمه قُدَار بن سالف.وقال الأفوه الأَوْدي: والعرب تسمِّي الجزّار قُدَارًا تشبيهًا بقُدَار بن سالف مشؤوم آل ثمود؛ قال مُهلهِل: وذكره زهير فقال: يريد الحرب؛ فكنَّى عن ثمود بعاد.قوله تعالى: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً} يريد صيحة جبريل عليه السلام، وقد مضى في (هود).{فَكَانُواْ كَهَشِيمِ المحتظر} وقرأ الحسن وقتادة وأبو العالية {المحْتَظَر} بفتح الظاء أرادوا الحظيرة.الباقون بالكسر أرادوا صاحب الحظيرة.وفي الصحاح: والمحتِظر الذي يعمل الحظيرة.وقرئ {كَهَشِيِم المحتظِر} فمن كسره جعله الفاعل ومن فتحه جعله المفعول به.ويقال للرجل القليل الخير: إنَّه لنَكِدُ الْحظِيرَة.قال أبو عبيد: أراه سمى أمواله حظيرة لأنه حظرها عنده ومنعها، وهي فعيلة بمعنى مفعولة.المهدوي: من فتح الظاء من {المحتظر} فهو مصدر، والمعنى كهشيم الاحتظار.ويجوز أن يكون {المحتظَر} هو الشجر المتخذ منه الحظيرة.قال ابن عباس: {المحتظِر} هو الرجل يجعل لغنمه حظيرة بالشجر والشوك؛ فما سقط من ذلك وداسته الغنم فهو الهشيم.قال: وعنه: كحشيش تأكله الغنم.وعنه أيضًا: كالعظام النخرة المحترقة، وهو قول قتادة.وقال سعيد بن جُبير: هو التراب المتناثر من الحيطان في يوم ريح.وقال سفيان الثوري: هو ما تناثر من الحظيرة إذا ضربتها بالعصا، وهو فعيل بمعنى مفعول.وقال ابن زيد: العرب تسمِّي كل شيء كان رطبًا فيبس هشيمًا.والحظْر المنع، والمحتظر المفتعل يقال منه: احتظر على إبله وحظر أي جمع الشجر ووضع بعضه فوق بعض ليمنع برد الريح والسباع عن إبله؛ قال الشاعر: وعن ابن عباس: أنهم كانوا مثل القمح الذي ديس وهشم؛ فالمحتظر على هذا الذي يتخذ حظيرة على زرعه، والهشيم فُتات السنبلة والتبن.{وَلَقَد يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}. اهـ. .قال الألوسي: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بالنذر}.بالرسل عليهم الصلاة والسلام فإن تكذيب أحدهم وهو صالح عليه السلام هنا تكذيب للكل لاتفاقهم على أصول الشرائع، وجوز أن يكون مصدرًا، أو جمعًا له وأن يكون جمع نذير بمعنى المنذر منه فلا تغفل.{فَقالواْ أَبَشَرًا مّنَّا} أي كائنًا من جنسنا على أن اجلار والمجرور في موضع الصفة لبشرًا وانتصابه بفعل يفسره نتبع بعد أي أنتبع بشرًا {واحدا} أي منفردًا لاتبع له، أو واحدًا من آحادهم لا من أشرافهم كما يفهم من التنكير الدال على عدم التعيين وهو صفة أخرى لبشر وتأخيره مع إفراده عن الصفة الأولى مع كونها شبه الجملة للتنبيه على أن كلا من الجنسية والوحدة مما يمنع الاتباع ولو قدم عليها لفات هذا التنبيه، وقرأ أبو السمال فيما ذكر الهذلي في كتابه الكامل وأبو عمرو الداني {أبشر منا واحد} برفعهما على أن بشر مبتدأ، وما بعد صفته، وقوله تعالى: {نَّتَّبِعُهُ} خبره.ونقل ابن خالويه وصاحب اللوامح وابن عطية عن أبي السمال رفع بشر ونصب {واحدا} وخرج ذلك ابن عطية على أن رفع بشر إما على إضمار فعل مبني للمفعول والتقدير أينبأ بشر، وإما على الابتداء والخبر جملة {نَّتَّبِعُهُ}، ونصب {واحدا} على الحال إما من ضمير النصب في {نَّتَّبِعُهُ} وإما من الضمير المستقر في {مِنَّا} وخرج صاحب اللوامح نصب {واحدا} على هذا أيضًا، وأما رفع بشر فخرجه على الابتداء وإضمار الخبر أي أبشر منا يبعث إلينا أو يرسل أو نحوهما، وتقدم الاستفهام يرجح تقدير فعل يرفع به {إِنَّا إِذَا} أي إذا اتبعنا بشرًا منا واحدًا {لَفِى ضلال} عظيم عن الحق {وَسُعُرٍ} أي نيران جمع سعير.وروي أن صالحًا عليه السلام كان يقول لهم: إن لم تتبعوني كنتم في ضلال عن الحق وسعر فعكسوا عليه لغاية عتوّهم فقالوا: إن اتبعناك كنا إذًا كما تقول، فالكلام من باب التعكيس والقول بالموجب، وجمع السعير باعتبار الدركات، أو للمبالغة، وروي عن ابن عباس ما يحتمل ما قلنا فإنه قال: أي لفي بعد عن الحق وعذاب، وفي رواية أخرى عنه تفسير السعر بالجنون على أنه اسم مفرد بمعنى ذلك يقال ناقة مسعورة إذا كانت تفرط في سيرها كأنها مجنونة قال الشاعر:والأول أوجه وأفصح.{أَءلْقِىَ الذّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا} أي أأنزل عليه الوحي من بيننا وفينا من هو أحس منه بذلك، والتعبير بألقي دون أنزل قيل: لأنه يتضمن العجلة في الفعل {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} أي شديد البطر وهو على ما قال الراغب: دهش يعتري من سوء احتمال النعمة وقلة القيام بحقها ووضعها إلى غير وجهها، ويقاربه الطرب وهو خفة أكثر ما تعتري من الفرح، ومرادهم ليس الأمر كذلك بل هو كذا وكذا حمله شدّة بطره وطلبه التعظيم علينا على ادعاء ذلك، وقرأ قتادة وأبو قلابة {بل هو الكذب الأشر} بلام التعريف فيهما وبفتح الشين وشدّ الراء، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبًا ما في ذلك، وقوله تعالى: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الكذاب الاشر} حكاية لما قاله سبحانه وتعالى بصالح عليه السلام وعدًا له ووعيدًا لقومه، والسين لتقريب مضمون الجملة وتأكيده، والمراد بالغد وقت نزول العذاب الدنيوي بهم، وقيل: يوم القيامة فهو لمطلق الزمان المستقبل وعبر به لتقريبه، وعليه قول الطرماح: أي {سَيَعْلَمُونَ} البتة عن قريب {مَّنِ الكذاب الاشر} الذي حمله أشره وبطره على ما حمله أصالح أم من كذبه، والمراد سيعلمون أنهم هم الكذابون الأشرون لكن أورد ذلك مورد الإبهام إيماءًا إلى أنه مما لا يكاد يخفي، ونحوه قول الشاعر: وقرأ ابن عامر. وحمزة. وطلحة. وابن وثاب. والأعمش {ستعلمون} بتاء الخطاب على حكاية ما قال لهم صالح مجيبًا لهم، وفي (الكشاف) أو هو كلام على سبيل الالتفات، قال (صاحب الكشف): أي هو كلام الله تعالى لقوم ثمود على سيل الالتفات إليهم إما في خطابه تعالى لرسولنا صلى الله عليه وسلم وهو نظير ما حكاه سبحانه عن شعيب {فتولى عَنْهُمْ وَقال يا قوم قَوْمٌ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ} [الأعراف: 79] بعد ما استؤصلوا هلاكًا وهو من بليغ الكلام فيه دلالة على أنهم أحقاء بهذا الوعيد وكأنهم حضور في المجلس حول إليهم الوجه لينعى عليهم جناياتهم وإما في خطابه عز وجل لصالح عليه السلام والمنزل حكاية ذلك الكلام المشتمل على الالتفات وعلى التقديرين لا إشكال فيه كما توهم.
|